خطبة بعنوان: الاحتكار والغش والاستغلال وآثارها على الفرد والمجتمع، للدكتور خالد بدير
خطبة بعنوان: الاحتكار والغش والاستغلال وآثارها على الفرد والمجتمع، للدكتور خالد بدير.
لتحميل الخطبة بصيغة word أضغط هنا.
لتحميل الخطبة بصيغة pdf أضغط هنا.
ولقراءة الخطبة كما يلي:
خطبة بعنوان: الاحتكار والغش والاستغلال وآثارها على الفرد والمجتمع
عناصر الخطبة:
العنصر الأول: معاملات نهي عنها الإسلام والحكمة من تحريمها
العنصر الثاني: صور مشرقة لسلفنا الصالح في أخلاق البيع والشراء
العنصر الثالث: السماحة والتراحم في البيع والشراء وأثرها على الفرد والمجتمع
المقدمة: أما بعد:
العنصر الأول: معاملات نهي عنها الإسلام والحكمة من تحريمها
عباد الله: انتشرت في هذه الأيام أدواء قاتلة من المعاملات المالية في البيع والشراء والعملية التجارية ؛ ومن هذه الأدواء:
الاحتكار: والاحتكار كما قال ابن حجر: إمساك الطّعام عن البيع، وانتظار الغلاء مع الاستغناء عنه وحاجة النّاس إليه «فتح الباري» .
ويدخل في الاحتكار جميع السلع والخدمات التي يتضرر المجتمع من حبسها واحتكارها؛ وعلى هذا فيفترق الادخار عن الاحتكار ؛ في أن الاحتكار لا يكون إلا فيما يضر بالناس حبسه، أما الادخار فإنه يتحقق فيما يضر وما لا يضر ، وفي الأموال النقدية وغيرها .
كما أن الادخار قد يكون مطلوبا في بعض صوره ، كادخار الدولة حاجيات الشعب .
أيها المسلمون: لقد تضافرت الأدلة من السنة النبوية في ذم الاحتكار والنهي عنه والتشنيع على المتعامل به؛ فعن معمر بن عبد الله- رضي الله عنه- عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يحتكر إلّا خاطىء» ( مسلم ). وعن عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من احتكر على المسلمين طعاما ضربه الله بالجذام والإفلاس» ( ابن ماجة، وأحمد وصححه الشيخ أحمد شاكر ).
قال الكاساني : “ومثل هذا الوعيد لا يلحق إلا بارتكاب الحرام ، ولأنه ظلم ؛ لأن ما يباع في المصر فقد تعلق به حق العامة ، فإذا امتنع المشتري عن بيعه عند شدة حاجتهم إليه فقد منعهم حقهم ، ومنع الحق عن المستحق ظلم وحرام ، يستوي في ذلك قليل المدة وكثيرها ، لتحقق الظلم.” (بدائع الصنائع) .
كما اعتبره ابن حجر الهيتمي من الكبائر حيث يقول :” إن كونه كبيرة هو ظاهر الأحاديث ، من الوعيد الشديد ، كاللعنة وبراءة ذمة الله ورسوله منه والضرب بالجذام والإفلاس؛ وبعض هذه دليل على الكبيرة.” (الزواجر)
أيها المسلمون : لقد حرم الإسلام الاحتكار لما يخلفه من آثار ومضار سيئة على الفرد والمجتمع؛ فهو يورث الضّغينة والبعد عن النّاس؛ ويناقض الإيثار الّذي هو جوهر علاقة المسلم بأخيه المسلم؛ فضلا عن أنه يثري القطيعة الاجتماعيّة في الأمّة؛ كما أنه يحمل في طياته بذور الهلاك والدمار لما يسببه من ظلم وغلاءٍ في الأسعار، وإهدارٍ لتجارة المسلمين وصناعتهم، وتضييق لأبواب العمل والرزق، وهو نوعٌ من محبة الذات وتقديم النفس على الآخرين؛ ويؤدي إلى تضخُّم الأموال في طائفةٍ قليلةٍ من الناس، كما في قوله -تعالى-: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) [الحشر:7].
لذلك ” اتفق فقهاء المذاهب على أن الحاكم يأمر المحتكر بإخراج ما احتكر إلى السوق وبيعه للناس . فإن لم يمتثل يجبر على البيع إذا خيف الضرر على العامة ، بل أخذ منه ما احتكره وباعه ، وأعطاه المثل عند وجوده ، أو قيمته . وهذا قدر متفق عليه بين الأئمة ، ولا يعلم خلاف في ذلك .” (الموسوعة الفقهية )
عباد الله : ومن الأدواء القاتلة في عملية البيع والشراء المنهي عنها والتي حرمها الإسلام (الغش)؛ وله صور عديدة: منها: بيع الفاسد على أنه صالح ؛ وبيع المواد الغذائية منتهية الصلاحية؛ وبيع المصنوعات التقليدية بسعر الأصلي على أنها أصلية؛ وتصرية الأنعام بحيث يترك الحليب في ضرعها حتى يجتمع فيبيعها فيظن المشتري أن لبنها كذلك دائما؛ وبيع الألبان منزوعة الدسم على أنها كاملة الدسم؛ وقد أخبرني أحد العاملين بمصانع الألبان أنه شاهد ذلك بنفسه؛ والتطفيف في الكيل والميزان؛ وغير ذلك من صور الغش والخداع والتضليل المنتشرة في المجتمع والتي لا يتسع المقام لحصرها والتي يتفنن فيها الغشاشون يوما بعد يوم.
لذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغش وتبرأ من صاحبه؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا ؛ فَقَالَ: مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟! قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ!! قَالَ: أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟! مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي” (مسلم)
وليعلم الغاش أن غشه سببٌ لمحق البركة في ماله وأهله وولده؛ قال صلى الله عليه وسلم:” البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما.”(البخاري ومسلم)
” ففي الحديث حصول البركة لهما إن حصل منهما الشرط وهو الصدق والتبيين، ومحقها إن وجد ضدهما وهو الكذب والكتم، وأن الدنيا لا يتم حصولها إلا بالعمل الصالح، وأن شؤم المعاصي يذهب بخير الدنيا والآخرة.”( فتح الباري)؛
ومما يدل على أن شؤم المعصية يذهب بالرزق قول أحد السلف: “جزاء المعصية الوهن في العبادة والضيق في المعيشة والتعسر في اللذة، قيل: وما التعسر في اللذة؟! قال: لا يصادف لذة حلالاً إلا جاءه من ينغصها عليه”.
وما أجمل مقولة عبد الله بن عباس: إن للحسنة ضياءً في الوجه ، ونورا في القلب ، وسعة في الرزق ، وقوة في البدن ، ومحبة في قلوب الخلق ، وإن للسيئة سوادا في الوجه ، وظلمة في القبر والقلب ، ووهنا في البدن ، ونقصا في الرزق ، وبغضة في قلوب الخلق . وقال بعض السلف : إني لأعصي الله فأرى ذلك في خلق دابتي ، وامرأتي ( الداء والدواء لابن القيم )
فكم من نعم ذهبت يوم اقترفت المعاصي؟! وكم حُرم الناس من خير عميم من ذنب فاسق أثيم، يجري الغمام فوق الديار، فلا ينزل عليهم الغيث المدرار؛ لما كسبته قلوبهم من الأخطال، فذاقوا من أمرهم الوبال؟!.
إذا كنت فِي نعمة فارعها *** فإن المعاصي تزيل النعم
وحطها بطاعة رب العباد *** فرب العباد سريع النقم
قال -تعالى-: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41]، والله -تعالى- يبتلي عباده ببعض ما كسبت أيديهم لكي ينتبهوا ويراجعوا أنفسهم، وقال -صلى الله عليه وسلم-: “يا معشر المهاجرين، خصالٌ خمسٌ إذا ابتُليتم بهنَّ -وأعوذ بالله أن تدركوهن-: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوهم من غيرهم فأخذوا بعض ما كان في أيديهم. وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله -عز وجل- ويتحروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم” رواه البيهقي والحاكم وصححه الألباني؛ فهل يعي المسلمون معنى هذا الحديث العظيم في أحوالهم التي يعيشونها الآن؟.
أيها المسلمون: هذه رسالة أبعثها للغشاش فأقول له: عجبًا للغشَّاش يسعى في جمع المال من الوُجُوه المُباحَة والمحرَّمة، فيَشقى في جمعه ويكسب عَداوَة الآخَرين وفقدان الثقة به، فيَعِيش منقوصَ القدر مَحلَّ ريبةٍ وشكٍّ، ثم يموت ويترك هذا المال الذي شقي به حيًّا؛ ليَشقَى به ميِّتًا يُحاسِب عليه وغيره يتنَّعم به ويترف، فغنمه لغيره وغُرْمُه عليه – نعوذ بالله من عمى البصيرة.
أحبتي في الله: عليكم بالنصح والتناصح للمسلمين واستبدال صفات الغش والتدليس والخداع بصفات النصح والصدق والأمانة في البيع والشراء وجميع أمور حياتنا ؛ كما كان يفعل سلفنا الصالح؛ فكان جرير بن عبد الله إذا قام إلى سلعته يبيعها ، بصَّر المشتري بعيوبها ، ثم خيرَّه، وقال: إن شئت فخذ، وإن شئت فاترك، فقيل: إنك إذا فعلت هذا لم ينفذ لك بيع. فقال:” إنا بايعنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم؛ وروي أن واثلة بن الأسقع كان واقفاً ذات يوم فباع رجل ناقة كانت له بثلثمائة درهم، فغفل واثلة وقد ذهب الرجل بالناقة، فسعي وراءه وجعل يصيح به: يا هذا ، اشتريتها للحم أو للظهر ؟ فقال : بل للظهر ، فقال واثلة : إن بخفها ثقباً قد رأيته ، وإنها لا تتابع السير ، فعاد فردها فنقصها البائع مائة درهم ، وقال البائع لواثلة: رحمك الله ، أفسدت علىَّ بيعي ، فقال: إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم – على النصح لكل مسلم.”(الإحياء للغزالي)
فأين نحن من هذه الأخلاق العالية ؟ وأين عالم الأسواق المالية من هذه القيم الفاضلة؟
يقول الإمام أبو حامد الغزالي معقباً على مواقف السلف الصالح من قيمة التناصح فيما بينهم :” فقد فهموا من النصح أن لا يرضيه لأخيه إلا ما يرضاه لنفسه ، ولم يعتقدوا أن ذلك من الفضائل وزيادة المقامات ، بل اعتقدوا أنه من شروط الإسلام الداخلة تحت بيعتهم ، وهذا أمر يشق على أكثر الخلق . فلذلك يختارون التخلي للعبادة و الاعتزال عن الناس ، لأن القيام بحقوق الله مع المخالطة والمعاملة مجاهدة لا يقوم بها إلا الصديقون.”
لذلك تجد هذه الصفات تكاد تكون منعدمة في أسواقنا إلا من رحم الله؛ وقليل ما هم !!! قال بعضهم: أتى على الناس زمان كان الرجل يدخل السوق ويقول: من ترون لي أن أعامل من الناس؟! فيقال له: عامل من شئت. ثم أتى زمان آخر كانوا يقولون: عامل من شئت إلا فلاناً وفلاناً، ثم أتى زمان آخر فكان يقال: لا تعامل أحداً إلا فلاناً وفلانا، وأخشى أن يأتي زمان يذهب هذا أيضاً. وكأنه قد كان الذي كان يحذر أن يكون، وإنا لله وإنا إليه راجعون.( الإحياء للغزالي)
عباد الله: لقد تبيَّنَ أن تلك الأمراض المعضلة التي بدأت تدب في الناس من غلاء واحتكار للسلع غالبها من ضعف الإيمان، وحب الدنيا، وإيثارها على العاجلة، وأنا أقول لمن يقع في ذلك: كم ستعيش في الدنيا؟ وكم ستملك؟ وإلى متى التمتع بملذاتها؟ أليست لك نهاية؟ أليس لك لقاء بملَك الموت؟ ألا تعلم أنك ستقف بين يدي رب العالمين فيجازيك بما فعلت؟ فلْيتَّقِ الله كُلُّ مَن تُسوِّل له نفسه احتكار السلع ورفع أسعارها.
وليعلموا أنه لن تنفعهم أموالهم ولا أملاكهم فتمنع عنهم عقاب الله، وليعلموا أنهم موقوفون بين يدي خالقهم فيسألهم عن كل ما جمعوه، أهو مِن حلال أم مِن حرام؟.
ولا شك أن مقصد الإسلام من تحريم هذه الأدواء القاتلة هو أن تحل الرحمة مكان الغلظة والظلم ، ويحل التعاطف والتآزر والإيثار مكان الأنانية والجشع والطمع ، حتى يعيش المجتمع في ضوء القيم الأخلاقية والتعاليم الإلهية فينعم ويصفو ، ويعم الخير والرفاه جميع أفراده.
عباد الله: يجب على المسلم أن يكون ملتزماً بالصدق في المعاملة وترك الغش والخداع ، وأن يكون متحلياً بالأمانة ومجتنباً للكذب والخيانة وجميع الرذائل ، وأن يحرص على الشرف في معاملته ، ولا يستحل حق غيره إلا بحق الله ، وعند ذلك تحصل الثقة وتحل البركة وينعدم الطمع ويختفي الجشع ، ويعم الخير والورع ، ونسعد في أخرانا بالجنة لامتثال أمر ربنا، ونفوز في الدنيا بالسعادة والرخاء وثقة الآخرين بنا ، فنأخذ مؤتمنين وندفع إليهم آمنين؛ وبذلك يكثر الخير ويزيد الربح ويتضاعف ونكون عند الله أبراراً وعند الناس أخياراً .
العنصر الثاني: صور مشرقة لسلفنا الصالح في أخلاق البيع والشراء
عباد الله: هناك صورٌ مشرقةٌ لسلفنا الصالح في التحلي بالأخلاق الفاضلة من الصدق والأمانة والنصيحة في البيع والشراء:
فهذا الإمام أبو حنيفة الذي يوصف بالأمانة الشديدة، والخلق الكريم؛ في تجارته وبيعه وشرائه؛ وقد كانت لأمانته صور عدة، وآثار كثيرة، منها: أن امرأة جاءته بثوب من الحرير تبيعه له، فقال: كم ثمنه؟ فقالت: مائة، فقال لها: هو خير من مائة، بكم تقولين؟ فزادت مائة ثم مائة حتى قالت: أربعمائة، قال: هو خير من ذلك، فقالت: أتهزأ بي؟ فقال: هاتي رجلًا يقوِّمْه، فجاءت برجل فاشتراه بخمسائة.
فما أعظم أمانته! يحتاط لغيره أكثر مما يحتاط لنفسه، وفاءً لحق دينه عليه وأمانته، فكان رحمه الله تاجرًا عرف ربه وعرف حقَّ مجتمعه عليه، وعرف أن وراءه يومًا لابد أنه صائر إليه ومحاسب فيه على كل ما اكتسبت يداه.
وكان غنياً يقرض الناس، فذهب مع الناس يعود مريضاً وقت الظهر، فاستظل الناس بحائط البيت وبقى هو واقفاً في الشمس ينتظرون أن يفتح الباب لهم، فقالوا له: اقترب تستظل بالحائط حتى يأذن لنا، فقال أبو حنيفة: لا.. إن صاحبكم مديون إليَّ وأخاف أن يجر الدين نفعاً فأكون قد رابيت.
وكان الإمام أبو حنيفة، خزازا (تاجر حرير) وكان أول من ملك مركزاً تجارياً ووضع فيه نظام خدمة الزبائن، فكان يمنع الباعة أن يزكوا بضاعته للمشتري. فذات مرة جاءت امرأة تشتري الحرير ففتح ابنه حماد طاقة الحرير وقال: ما شاء الله فقال الإمام أبو حنيفة: يا حماد اجمع القماش فليست للبيع لقد زكيت.
أيها المسلمون: إنما كانت أمانته كذلك لأن المال كان في يديه، ولم يتمكن من قلبه، فهو يعلم أن ذلك المال فضل من عند الله، ولذا كان يجعل أرباح تجارته لسد حاجات العلماء والمحدّثين والفقراء وقضاء حوائجهم ودفع خلتهم، فيجمع الأرباح من سنة إلى سنة، فيشتري بها حوائجهم وأقواتهم وكسوتهم ويدفع باقي الأرباح إليهم، ويقول: أنفقوا في حوائجكم ولا تحمدوا إلا الله؛ فإني ما أعطيتكم من مالي شيئا ولكن من فضل الله عليَّ فيكم، وهذه أرباح بضائعكم؛ فإنه هو والله مما يجريه الله لكم على يدي فما في رزق الله حول لغيره.
رجل لو تشبه به كل تاجر مسلم ….ولو بعشر ما فعل….لكنا في سعادة ورخاء…ولم يبق فقير واحد في المسلمين.
ومن هذه الصور ما روى ” أن ابن سيرين باع شاة ، فقال للمشتري : أبرأ إليك من عيب فيها ، إنها تقلب العلف برجلها. وباع الحسن بن صالح جارية ، فقال للمشتري : إنها تنخمت مرة عندنا دماً.
فهكذا كانت سيرة أهل الدين ، فمن لا يقدر عليه فليترك المعاملة ، أو يوطن نفسه على عذاب الآخرة.” ( الإحياء للغزالي)
وما أجمل هذه الصورة التي يحكيها لنا النبي صلى الله عليه وسلمك؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الْأَرْضَ وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ، وَقَالَ الَّذِي لَهُ الْأَرْضُ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا، فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ، فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ قَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلَامٌ. وَقَالَ الْآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ. قَالَ: أَنْكِحُوا الْغُلَامَ الْجَارِيَةَ وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا”( البخاري )
تخيل لو حدث هذا في عصرنا الحاضر لرفعت قضايا إلى المحاكم وكلٌ يدعي أحقيته به !!
ومن هذه الصور: ” أن أحد التجار الأمناء خرج ذات يوم في سفر له، وترك أحد العاملين عنده ليبيع في متجره، فجاء رجل يهودي واشتري ثوبًا كان به عيب. فلما حضر صاحب المتجر لم يجد ذلك الثوب، فسأل عنه، فقال له العامل: بعته لرجل يهودي بثلاثة آلاف درهم، ولم يطلع علي عيبه. فغضب التاجر وقال له: وأين ذلك الرجل؟ فقال: لقد سافر. فأخذ التاجر المسلم المال، وخرج ليلحق بالقافلة التي سافر معها اليهودي، فلحقها بعد ثلاثة أيام، فسأل عن اليهودي، فلما وجده قال له: أيها الرجل! لقد اشتريت من متجري ثوبًا به عيب، فخذ دراهمك، وأعطني الثوب. فتعجب اليهودي وسأله: لماذا فعلت هذا؟ قال التاجر: إن ديني يأمرني بالأمانة، وينهاني عن الخيانة، فقد قال رسولنا -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا” (مسلم)، فاندهش اليهودي وأخبر التاجر بأن الدراهم التي دفعها للعامل كانت مزيفة، وأعطاه بدلاً منها، ثم قال: لقد أسلمت لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.”
هذه رسالة للتجار والبائعين الذين لا يراعون في مؤمن إلا ولا ذمة.
وصورة أخرى مشرقـة من صور حياة تجار سلفنا الصالح، فقد كان محمد بن المنكدر من معادن الصدق والأمانة، كان له سلع تباع بخمسة، وسلع تباع بعشرة، فباع غلامه في غَيبته شيئا من سلع الخمسة بعشرة , فلما عرف ابن المنكدر ما فعل غلامه اغتمّ لصنيعه، وطفق يبحث عن المشتري طوال النهار … حتى وجده، وكان من الأعراب، فقال له ابن المنكدر : إنَّ الغلام قد غلط فباعك ما يساوي خمسة بعشرة، فقال الأعرابي: يا هذا قد رضيت. فقال ابن المنكدر: وإن رضيت فإنّا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا، فاختر إحدى ثلاث: إما أن تستعيد مالك وتعيد السلعة، وإما أن تُردَّ إليك خمسة، وإما أن تأخذ من سلعة الخمس سلعة العشر. فقال الأعرابي: أعطني خمسة، فرد عليه الخمسة وانصرف؛ فسأل الأعرابي أهل السـوق عن هذا التاجـــر الأمين؟ فقيل له: هذا محمد بن المنكدر، فقال: لا إله إلا الله، هذا الذي ملأ الآفاق ذكره.
هكذا كانت معاني التجارة والبيع عند هؤلاء الصالحين؛ يقول أحد التجار الملتزمين: إنّ كلمة تاجر تعتبر عندنا معشرَ التجار اختصارا في أحرفها الأربعة لعدد مماثل من المعاني: فحرف التاء تعني التقوى، والألف أمانة والجيم جرأة والراء رحمة.
-نعم فالتاجر يجب أن يكون أولا تقيّا، يهاب الله في أعماله وتجارته، وأمينا حيث تقتضي الأمانة في التعامل مع الناس ومع غيره من أولاد الصنعة؛ وأن يكون مؤتمنا على الأموال المودعة لديه، وأن يكون جريئا في الحق والعرض والطلب، وأن يكون رحيما بالناس. كل هذه الأخلاق العالية كانت سبباً في انتشار الإسلام في شتى بقاع العالم، فأين نحن منها الآن؟!!!
العنصر الثالث: السماحة والتراحم في البيع والشراء وأثرها على الفرد والمجتمع
أيّها المسلمون: ينبغي للمسلم أن يكونَ ذا شفَقَة وعَطف وتسامح وإحسانٍ في البيع والشراء، فلا يغالي في الرِّبح، ولا يبالغ في التكسُّب، ولا يهتبل حاجةَ إخوانه ليرهقَهم بما يشقّ عليهم، بل يراعي حقوقَ الأخوَّة الإسلاميّة، وقد حثَّنَا الشارِعُ الحكيم على المسَامحَة في المعاملة، فعَن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “رحِم الله رجلاً سمحًا إذا باع وإذا اشتَرى وإذا اقتَضَى”.( البخاريّ.)؛ فالفرد المسلم مسامح وهين ولين، في بيعه وشرائه واقتضائه لدينه.
ففي الحديث الشريف :” الحض على السماحة في المعاملة ، واستعمال معالي الأخلاق ، وترك المشاحة ، والحض على ترك التضييق على الناس في المطالبة وأخذ العفو منهم.” ( فتح الباري)
إنَّ إِرخَاصَ الأسعار على المسلِمين، وتركَ استغلالهم، لا يفعَلُه إلا ذوو القلوبِ الرحيمة، التي امتَلأت عَدلاً وصِدقًا وتقوًى وإحسانًا، وأولئك هُمُ الموعودون بالبركةِ في أرزاقهم، والسعةِ في أموالهم، والصِّحةِ في أبدانهِم، والسعادة في نفوسهم.
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن التاجر الذي يرأف بالناس يرأف الله به، ومن يرحمهم يرحمه الله، ومَن يُيسر عليهم ييسر الله عليه، ومن صدق في بيعه وشرائه نال الأجر العظيم، والثواب الجزيل، ويكفيه شرفاً وفخراً أن ينال الجنة بفضل الله -تعالى- ورحمته، قال -صلى الله عليه وسلم:”التاجر الصَّدُوقُ الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء” ( الترمذي، وصححه الألباني.)
ولقد ضرب لنا السلف الصالح أروع الأمثلة في التسامح والرحمة في البيع والشراء؛ فقد روي في ذلك أن أبا قتادة رضي الله عنه كان له دين على رجل ، وكان يأتيه يتقاضاه فيختبئ منه ، فجاء ذات يوم فخرج إليه فقال: ما يغيبك عني ؟ فقال: إني معسر وليس عندي شيء ، قال : آلله إنك معسر؟ قال : نعم ، فبكي أبو قتادة ، ثم قال : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:” من نفس عن غريمه أو محا عنه ، كان في ظل العرش يوم القيامة.”( أحمد والدارمي)
وروى أن قيس بن سعد عبادة لما مرض استبطأ إخوانه في العيادة، فسأل عنهم فقيل له: إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين. فقال: أخزى الله مالا يمنع عني الإخوان من الزيارة، ثم أمر منادياً ينادي من كان لقيس عنده مال، فهو منه في حل. فكسرت عتبة بابه بالعشي لكثرة العواد. وكان يقول: اللهم ارزقني مالا وفعالا، فإنه لا يصلح الفعال إلا بالمال.”(المستطرف للأبشيهي)
فضلاً عن أن الله يتجاوز عن الدائن يوم القيامة بسبب تجاوز الدائن عن مدينه. فعن حذيفة قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:” تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم ، فقالوا : عملت من الخير شيئاً ؟ قال: لا ، قالوا: تذكر ، قال : كنت أداين الناس ، فآمر فتياني أن ينظروا المعسر ، ويتجوزوا عن المعسر ، قال الله: تجاوزا عنه.”( البخاري ومسلم)
وأختم هذا العنصر بهذه الأخلاق العالية وهذه المواساة والرحمة والشفقة بالأمة والمجتمع لأحد العشرة المبشرين بالجنة وهو عثمان ذو النورين؛ فعن ابن عباس قال: قحط الناس في زمان أبي بكر، فقال أبو بكر: لا تمسون حتى يفرج الله عنكم. فلما كان من الغد جاء البشير إليه قال: قدمت لعثمان ألف راحلة براً وطعاماً، قال: فغدا التجار على عثمان فقرعوا عليه الباب فخرج إليهم وعليه ملاءة قد خالف بين طرفيهما على عاتقه فقال لهم: ما تريدون؟ قالوا: قد بلغنا أنه قد قدم لك ألف راحلة براً وطعاماً، بعنا حتى نوسع به على فقراء المدينة، فقال لهم عثمان: ادخلوا. فدخلوا فإذا ألف وقر قد صب في دار عثمان، فقال لهم: كم تربحوني على شرائي من الشام؟ قالوا العشرة اثني عشر، قال: قد زادوني، قالوا: العشرة أربعة عشر، قال: قد زادوني. قالوا: العشرة خمسة عشر، قال: قد زادوني، قالوا: من زادك ونحن تجار المدينة؟ قال: زادني بكل درهم عشرة، عندكم زيادة؟ قالوا: لا!! قال: فأشهدكم معشر التجار أنها صدقة على فقراء المدينة قال عبد الله بن عباس: فبت ليلتي فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم في منامي وهو على برذون أشهب يستعجل؛ وعليه حلة من نور؛ وبيده قضيب من نور؛ وعليه نعلان شراكهما من نور، فقلت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد طال شوقي إليك، فقال صلى الله عليه وسلم: إني مبادر لأن عثمان تصدق بألف راحلة، وإن الله تعالى قد قبلها منه وزوجه بها عروسا في الجنة، وأنا ذاهب إلى عرس عثمان.”( الرياض النضرة في مناقب العشرة للمحب الطبري)
فهل يفتح الله تعالى آذان عُبَّاد المال ومحتكري قوت العباد شحًّا وجشعًا إلى صوت هذه العظمة العثمانية، حتى تدلف إلى قلوبهم فتهزها هزة الأريحية والعطف، وتوقظ فيها بواعث الرحمة والإحسان بالفقراء والمساكين والأرامل واليتامى وذوي الحاجات من أهل الفاقة والبؤس الذين طحنتهم أزمة الحياة، واعتصرت دماءهم شرابًا لذوي القلوب المتحجرة من الأثرياء؟ فما أحوج المسلمين في هذه المرحلة من حياتهم إلى نفحة عثمانية في إنفاق الأموال على الفقراء والمساكين والمحتاجين! تسري بينهم تعاطفًا ومؤاساة وبرًّا وإحسانًا.
وحينئذ تسود المحبة والود واللئام والإخاء بين الأفراد ، وتتحقق الصلة والروابط الاجتماعية ، وتوجد الثقة بين المستثمرين ، ويعيش الجميع في جو من العدالة والسعادة والأمن والأمان ، وقوام كل ذلك هو القيم والأخلاق في الأسواق المالية.
نسأل الله يرزقنا الرزق الحلال وأن يبارك لنا فيه؛ وأن يجنبنا الغش والاستغلال والاحتكار والخبث ؛ والفواحش ما ظهر منها وما بطن ؛؛؛
الدعاء،،،،،،،،، وأقم الصلاة،،،،،،،،،،،،
كتبه : خادم الدعوة الإسلامية
د / خالد بدير بدوي